تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 474 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 474

474 : تفسير الصفحة رقم 474 من القرآن الكريم

** وَقَالَ رَبّكُـمْ ادْعُونِيَ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنّ الّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِينَ
هذا من فضله تبارك وتعالى وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه وتكفل لهم بالإجابة كما كان سفيان الثوري يقول: يا من أحب عباده إليه من سأله فأكثر سؤاله, ويا من أبغض عباده إليه من لم يسأله وليس أحد كذلك غيرك يا رب. رواه ابن أبي حاتم وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
الله يغضب إن تركت سؤالهوبُنَيّ آدم حين يسأل يغضب
وقال قتادة: قال كعب الأحبار أعطيت هذه الأمة ثلاثاً لم تعطهن أمة قبلها ولا نبي: كان إذا أرسل الله نبياً قال له أنت شاهد على أمتك وجعلتكم شهداء على الناس, وكان يقال له ليس عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وكان يقال له ادعني أستجب لك وقال لهذه الأمة {ادعوني أستجب لكم} رواه ابن أبي حاتم. وقال الإمام الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو إبراهيم الترجماني حدثنا صالح المرّي قال: سمعت الحسن يحدث عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال: «أربع خصال واحدة منهن لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك وواحدة فيما بينك وبين عبادي, فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئاً وأما التي لك علي فما عملت من خير جزيتك به وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلي الإجابة وأما التي بينك وبين عبادي فارض لهم ما ترضى لنفسك». وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن ذر عن يسيع الكندي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الدعاء هو العبادة» ثم قرأ {ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} وهكذا رواه أصحاب السنن الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن جرير كلهم من حديث الأعمش به. وقال الترمذي: حسن صحيح ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير أيضاً من حديث شعبة عن المنصور والأعمش كلاهما عن ذر به, وكذا رواه ابن يونس عن أسيد بن عاصم بن مهران حدثنا النعمان بن عبد السلام حدثنا سفيان الثوري عن منصور عن ذر به, ورواه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما وقال الحاكم صحيح الإسناد. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع أبو مليح المدني شيخ من أهل المدينة سمعه عن أبي صالح وقال مرة سمعت أبا صالح يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع الله عز وجل غضب عليه» تفرد به أحمد وهذا إسناد لا بأس به, وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا مروان الفزاري حدثنا صبيح أبو المليح سمعت أبا صالح يحدث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لا يسأله يغضب عليه» قال ابن معين أبو المليح هذا اسمه صبيح كذا قيده بالضم عبد الغني بن سعيد وأما أبو صالح هذا فهو الخوزي سكن شعب الخوز, قاله البزار في مسنده, وكذا وقع في روايته أبو المليح الفارسي عن أبي صالح الخوزي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يسأل الله يغضب عليه» وقال أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي: حدثنا همام حدثنا إبراهيم عن الحسن حدثنا نائل بن نجيح حدثني عائذ بن حبيب عن محمد بن سعيد قال: لما مات محمد بن مسلمة الأنصاري وجدنا في ذؤابة سيفه كتاباً باسم الله الرحمن الرحيم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن لربكم في بقية أيام دهركم نفحات فتعرضوا له لعل دعوة أن توافق رحمة فيسعد بها صاحبها سعادة لا يخسر بعدها أبداً». وقوله عز وجل: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي} أي عن دعائي وتوحيدي سيدخلون جهنم داخرين أي صاغرين حقيرين كما قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن عجلان حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار». وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا أبو بكر بن محمد بن يزيد بن خنيس قال: سمعت أبي يحدث عن وهيب بن الورد حدثني رجل قال: كنت أسير ذات يوم في أرض الروم فسمعت هاتفاً من فوق رأس الجبل وهو يقول: يا رب عجبت لمن عرفك كيف يرجو أحداً غيرك يا رب عجبت لمن عرفك كيف يطلب حوائجه إلى أحد غيرك. قال ثم ذهبت ثم جاءت الطامة الكبرى قال ثم عاد الثانية فقال يا رب عجبت لمن عرفك كيف يتعرض لشيء من سخطك يرضي غيرك قال وهيب وهذه الطامة الكبرى, قال فناديته أجني أنت أم إنسي ؟ قال بل إنسي اشغل نفسك بما يعنيك عما لا يعنيك.

** اللّهُ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنّهَـارَ مُبْصِـراً إِنّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النّاسِ وَلَـَكِنّ أَكْـثَرَ النّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ * ذَلِكُـمُ اللّهُ رَبّـكُمْ خَالِقُ كُـلّ شَيْءٍ لاّ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّىَ تُؤْفَكُونَ * كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الّذِينَ كَانُواْ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ * اللّهُ الّذِي جَعَـلَ لَكُـمُ الأرْضَ قَـرَاراً وَالسّمَآءَ بِنَـآءً وَصَوّرَكُـمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُـمْ وَرَزَقَكُـمْ مّنَ الطّيّبَاتِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُـمْ فَتَـبَارَكَ اللّهُ رَبّ الْعَالَمِينَ * هُوَ الْحَيّ لاَ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ فَـادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ الْحَـمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ
يقول تعالى ممتناً على خلقه بما جعل لهم من الليل الذي يسكنون فيه يستريحون من حركات ترددهم في المعايش بالنهار وجعل النهار مبصراً أي مضيئاَ ليتصرفوا فيه بالأسفار وقطع الأقطار والتمكن من الصناعات {إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون} أي لا يقومون بشكر نعم الله عليهم, ثم قال عز وجل: {ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو} أي الذي فعل هذه الأشياء هو الله الواحد الأحد خالق الأشياء الذي لا إله غيره ولا رب سواه {فأنى تؤفكون} أي فكيف تعبدون من الأصنام التي لا تخلق شيئاً بل هي مخلوقة منحوتة.
وقوله عز وجل: {كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون} أي كما ضل بعبادة غير الله كذلك أفك الذين من قبلهم فعبدوا غيره بلا دليل ولا برهان بل بمجرد الجهل والهوى. وجحدوا حجج الله وآياته وقوله تعالى: {الله الذي جعل لكم الأرض قرار} أي جعلها لكم مستقراً بساطاً مهاداً تعيشون عليها وتتصرفون فيها وتمشون في مناكبها وأرساها بالجبال لئلا تميد بكم {والسماء بناء} أي سقفاً للعالم محفوظاً {وصوركم فأحسن صوركم} أي فخلقكم في أحسن الأشكال ومنحكم أكمل الصور في أحسن تقويم {ورزقكم من الطيبات} أي من المآكل والمشارب في الدنيا فذكر أنه خالق الدار والسكان والأرزاق فهو الخالق الرازق كما قال تعالى في سورة البقرة: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا الله أنداداً وأنتم تعلمون}. وقال تعالى ههنا بعد خلق هذه الأشياء: {ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين} أي فتعالى وتقدس وتنزه رب العالمين كلهم ثم قال تعالى: {هو الحي لا إله إلا هو} أي هو الحي أزلاً وأبداً لم يزل ولا يزال وهو الأول والاَخر والظاهر والباطن {لا إله إلا هو} أي لا نظير له ولا عديل {فادعوه مخلصين له الدين} أي موحدين له مقرين بأنه لا إله إلا هو الحمد لله رب العالمين. قال ابن جرير: كان جماعة من أهل العلم يأمرون من قال لا إله إلا الله أن يتبعها بالحمد لله رب العالمين عملاً بهذه الاَية. ثم روي عن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق عن أبيه عن الحسين بن واقد عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال: من قال لا إله إلا الله فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين وذلك قوله تعالى: {فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين} وقال أبو أسامة وغيره عن إسماعيل بن أبي خالد عن سعيد بن جبير قال إذا قرأت {فادعو الله مخلصين له الدين} فقل لا إله إلا الله وقل على أثرها الحمد لله رب العالمين ثم قرأ {فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين}. قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير حدثنا هشام يعني ابن عروة بن الزبير عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن بدر المكي قال كان عبد الله بن الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يسلم لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا حول ولا قوة إلا بالله, لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن, لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل بهن دبر كل صلاة ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من طرق عن هشام بن عروة وحجاج بن أبي عثمان وموسى بن عقبة ثلاثتهم عن أبي الزبير عن عبد الله بن الزبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة «لا إله إلا الله وحده لا شريك له» وذكر تمامه.